"شاعرة الأنوثة"
للشعر العربي الأصيل سحره المتغلغل في عمق الكيان العربي منذ الجاهلية إلى عصرنا الراهن وإلى الأبد ، هذا السحر لن تستطيع موجات التغريب زحزحته عن مكانته مهما بذلت من جهود ، ويرجع ذلك إلى النضوج الفني الذي بلغه الشعر العربي بوجود عمالقة خلفوا تراثا أدبيا فخما لم يستطع مطاولته اللاحقون، ومع امتداد الزمن يستمر التواصل بين المواهب الجديدة وتراثها الشعري الباذخ ، ومن ثم تعاد الحياة للشعر العربي بتلك المواهب الجديدة التي تشبعت بالأصالة الشعرية ، فمن بين ركام الانبهار بالغرب والهجمات الشرسة على عمود الشعر ظهرت أصوات شعرية تنتصف لعظمة الشعر العربي وتعيد ألقه بشعر يخلب الألباب ومن أبرز هذه الأصوات الشاعرة الكبيرة سميرة طويل ، وهي شاعرة مغربية تعيش في أوربا بجسدها وتحلق بروحها في بلاد العرب ، تعيش مع الخنساء وامرئ القيس والبردوني ، إنها شاعرة الأنوثة بكل ما تحمل الكلمة من دﻻﻻت لغوية ، لرقة شعرها وعذوبته وجمال معانيه ، لقد أعادت للشعر روحه وللمتلقي شغفه المفقود في عصر الحداثة .
تمتلك الشاعرة المغربية موهبة باذخة متدفقة بأعذب الأشعار ، صدر لها ثلاثة دواوين وهذا ديوانها الرابع " أهازيج الغربة" ،
الحديث عن ديوان "أهازيج الغربة " كالحديث عن المروج الخضراء والبساتين الغناء التي تتسلل من بينها الأنهار وتغرد فوقها العصافير ، إنه ديوان مفعم بالروح الرومانسية الجميلة ، عصرت فيه الشاعرة رقة إحساسها وجمال قلبها وبراءة روحها بعطر حروفها الساحرة في من حولها، معظم الديوان يحمل عتابات رقيقة مع الحبيب ، وفيه قصيدة في مديح النبي الكريم هي من أروع ما قيل في مديحه صلى الله عليه وسلم ، وقصيدة لأ بويها ، وقصائد متفرقة في الناس من حولها ، في كل ديوانها تجد أسلوبا متميزا في رشاقة الألفاظ وجمال الصور وسهولة المخرج ، تقول لحبيبها:
قل إنني من يستفز مشاعرك
وتخوض في رمل يمص معاذرك
قل إن عيني الجميلة أشعلت
فيك الفحولة واستحلت ناظرك
هيا اعترف إني سلبتك مهجة
ومﻷت بالحسن الرقيق محاجرك
قلها لأنثر في يديك مفاتني
وأريك ما يخفي الهوى وأجاهرك
قل إنني الآن الجهات جميعها
فتحت ذراعيها لتحضن طائرك
واكتمال أدواتها ونضوج موهبتها واتصافها بحس مرهف ولغة عذبة جعلت من شعرها سهل المخرج ، موقع الألفاظ ، ناصع البيان فضلا عن غزارة معانية وجدتها ، لكل ذلك أجد الحديث عن جمال شعرها يحتاج وقفات متأنية ودراسات متعمقة ربما ﻻ يسمح الوقت هنا بإيراد تفاصيل ذلك الجمال الشعري الأخاذ ،
لذلك سأكتفي ببعض الإشارات إليه .
1- الأساس الذي ينبني عليه تحديد الشعر من عدمه جسد النص اللغوي ؛ فالموهبة الشعرية تعطي صاحبها التميز في حسن اختيار الألفاظ ورشاقة التعبير عن المعنى المراد ، ثم بالممارسة يزداد الشعر صفاء وأناقة ، هذا الأساس يتفاوت فيه الشعراء حسب قوة الملكة وضعفها ، وﻻشك أننا أمام شاعرة كبيرة في هذا المضمار؛ صقلت موهبتها بعناية فائقة فحجزت مقعدها في قمة الشعراء، تقول لحبيبها :
من عن دروبك والأماكن أسأل
يامن له قلبي المعذب منزل
الليل يحملني إليك صبابة
والصبح نحوك نوره ﻻ يوصل
قدري على درب الحياة طريحة
في كل ثانية ببعدك أقتل
ﻻ زاد لي إﻻ السراب يحيطني
وأنا على رمل الفيافي أذبل
إن الموهبة الفذة استطاعت إدهاشنا بعذوبة الشعر وانسيابه بحيث يشعر السامع أن هذا النص أخرج دفعة واحدة أو خلق هكذا دون تدخل من الشاعرة .
2- من السمات المميزة لديوان أهازيج الغربة سيطرة العاطفة ، وﻻ يخفى على المتلقي تأثر الشاعرة بالمدرسة الرومانسية التي دعت إلى شعر الوجدان ، وحددت الشعر بأنه تعبير عن النفس ، لذلك نجد الشاعرة انهمكت في استخراج طاقتها العاطفية مما جعل شعرها مشحون بشحنات تشل حواس المتلقي وتجذبه إليها، وملامح المدرسة الرومانسية في ديوانها كثيرة بدءا من عنوان الديوان مرورا بعناوين القصائد انتهاء بتفاصيل ما في شعرها من عاطفة كالحب والحزن والشوق والألم ...الخ ، وفي حديثها عن الغربة اتفاق مع معظم الشعر الرومانسي
الذي ظل يحوم حولها، تقول :
كم دهتني الدنيا خطوبا وألقت
من أساها علي كيفا وكما
وتجرعت علقم العيش فيها
من ذويها وذقت بطشا وظلما
رغم ضعفي صبرت ما قلت أنثى
عن ثراها غريبة قلت قدما
إن الشاعرة تتحدث عن اغترابات ثلاث غربتها في دنيا يتنكر أهلها لها ويسومونها ظلما وبطشا، وغربة عن ثرى بلادها ، وغربة ثالثة ربما كانت أشد عليها هي غربة الأنوثة في عالم الصراع والبقاء للأقوى ...
3- عند الحديث عن الصورة الشعرية نجدها جاءت كالعصافير المغردة في بساتين ألفاظها الوارفة ، حرصت الشاعرة على أن تكون الصورة خريطة تكمل بها الحدث الشعري ، ترتبط به ارتباطا متماسكا على عادة الشعراء الكبار الذين يجعلون للصورة إطارا يمهدون به الأسماع لبيت القصيد أو لتلك الصورة المكثفة للحدث فﻻ يجد المتلقي أي تباين أو انفصال بين الصورة والسرد الممهد لها ، تقول :
لي ما أخبيه في قلبي بلا قلق
ولي غرامي الذي يبدو على ورقي
فابحث بقلبك عن أنثى تداعبه
وازرع قصائدك الأحلى على الطرق
حبيب عمري معي يحتاجني وأنا
أحتاجه وحده يصغي إلى نزقي
يطفي رياحي إذا هاجت وعاصفتي
وهو الملاذ الذي ينجي من الغرق
هكذا تسير بنا الشاعرة في تسلسل منطقي لعلاقتها بحبيبها ؛ فحين تهيج رياحها وعاصفتها لن يطفيها إﻻ الحبيب الذي تجده أيضا المﻻذ من طوفانها النفسي .
هناك صور شعرية باذخة الجمال في ديوان أهازيج الغربة ، تحاول فيها الشاعرة أن تمد حدود أنوثتها لتشمل كل شيء حول الرجل، منها قولها:
قل إنني الآن الجهات جميعها
فتحت ذراعيها لتحضن طائرك
لقد رسمت الشاعرة صورة كبرى للأنوثة إذ تهب الرجل سفوحها وتعطيه من ثمارها ما يشاء لأنها تزدهر بعطائها وبوجوده إنها تشبه الأرض تماما ، تقول:
تعال إلي واسبح في عيوني
وقل لي مثلما تشتاق كوني
بلا قسم تعال فأنت معنى
وجودي أنت فاكهة السنين
تضاريسي إلى كفيك تهفو
وتاريخي المسافر في المتون
تعال إلي في ثغري كؤوس
لذيذات وسكرها حنيني
وخذ ما شئت من ثمري ورفرف
على صدري لأولد من غصوني
إنها خﻻصة العﻻقة الحميمة بين المرأة والرجل ، من خﻻل عطاء المرأة الدائم والغزير يتحقق وجودها ، فكل البشر في الأرض هم غصون ولدت من شكرتها، لذلك اقترن ازدهارها بعطائها الﻻ محدود ...
هناك صور شعرية كثيرة في الديوان لمن يريد تتبع ذلك ، فالديوان غني بصورة المبتكرة وبتقنياته الساحرة ، وسيكون قبلة للدراسات الأكاديمية في كثير من جامعات العرب ، فمن حقها علينا أن ننصفها ونقدر موهبتها الشعرية الرفيعة ....
......
.
د. أبو فراس حسين بن نصر اليافعي
جامعة عدن
اليمن